Tuesday, May 12, 2009

حوار مع الشاعرة فاطمة ناعوت



وهي كاتبةٌ وشاعرة ومترجمة. تخرجت في كلية الهندسة قسم العمارة جامعة عين شمس، لها حتى الآن، اثنا عشر كتابا ما بين الشعر والترجمات والنقد. تناولت تجربتََها بعضُ الأطروحات العلمية والأكاديمية. مثلّت اسم مصر في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الثقافية الدولية. تُُُرجمت قصائدها إلى العديد من اللغات الأجنبية. فاز مخطوط ديوانها الخامس "قارورة صمغ" بالجائزة الأولى في مسابقة "الشعر العربي" في هونج كونج لعام 2006 وصدر بالإنجليزية والصينية مطلع 2007، صدر لها هذا العام 2009 ديوان (اسمي ليس صعبا).

(فاطمة ناعوت) اسم تربع على عرش الأدب والثقافة في مصر خلال السنوات الأخيرة، ببساطة تأسرك بمجرد قرأة سطر واحد من شعرها فتدخل إلى عالمها اللامحدود، وتنقلك مقالاتها وترجماتها إلى عالم الفنون الراقية والثقافة الرفيعة، ولا نملك أمامها سوى رفع القبعة احتراما، ومن ثم اهتمت القاهرة ليكون معها هذا الحوار:

• أنتِ مهندسة معمارية، هذا المجال في حد ذاته بحاجة إلى جهد إبداعي هائل... كيف تستطيعين التوفيق بين كل
مجهوداتك الإبداعية، من شعر وترجمة ونقد، وكيف تحققين النجاح فيهم جميعا؟
أشكركِ، بدايةً، إن كنتِ ترين أنني حققتُ بعض النجاحِ في تلك المجالات؛ المتنافرةِ المختلفة، ظاهريًّا، المتناغمة المؤتلفة، جوهريًّا ومضمونيًّا. العمارةُ أمُّ الفنون. هكذا قالتِ مقسِّمو أجناس المنجز البشريّ من فنون وعلوم. سموها "أمَّ" الفنون لأنها أوّلُ ما أنجزه الإنسانُ فوق الأرض؛ إذ ابتنى لنفسه، ليحميها من الضواري والطبيعة، مأوًى من جذوع الشجر، تطوّر كهفًا في قلب جبل، ثم كوخًا، فبيتًا، ثم ناطحة سحاب. لكنني أسميها "أمَّ الفنون"، لأن كلَّ ألوان الفنون، بل والعلوم، تنطلق من نبعها وتصبُّ في حقلِها. علّمنا أساتذتُنا في كلية الهندسة، أنْ من أجل أن تكون معماريًّا ناجحًا، لابد أن تمتلكَ عينَ فنان، وأُذنَ موسيقيٍّ، وأصابعَ نحّاتٍ، وقلبَ شاعر.
ثم اكتشفتُ، خلال سنواتِ دراستي العمارةَ بهندسة عين شمس، أننا "نستعير"، خلال يومنا الدراسيّ، معاجمَ الفنون الأخرى. كتلة وفراغ/ من النحت، هارموني وتنافر/ من الموسيقى، دائرة الألوان/ من الرسم، تماثل وتضاد واستعارة ومحاكاة وكناية ورمز...، من الشعر والمسرح والرواية. والأخطر أن المعماريّ عليه أن يدرس الرياضيات والفراغية وحساب المثلثات والتكامل والتفاضل والفيزياء والفضاء والجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والديموجرافيا والإثنيات والحضارات وعادات الشعوب والاقتصاد والجيولوجيا والأركيلوجيا بل وعلم النفس وطبائع الإنسان وهلمّ جرا مما ابتكر الإنسان من علوم متخصصة. أفلا تتفقين معي إذًا أن العمارة عالمٌ كامل غنيٌّ وثريٌّ؟ من هنا يأتي الشعرُ والنقدُ، الانطباعيّ طبعًا، مثل أنهارٍ تنطلق من جبل العمارة، ثم تصبُّ في وديانها. حزنتْ أمي لأنني استبدلتُ الشعرَ بالعمارة، بعدما عملتُ بها عشر سنوات ونجحتُ، وسخر ابني مني أن أهدرتُ عمري في دراسةٍ معقدة ثم أنفلتُّ منها لعالمٍ مختلف. كلاهما مخطئٌ.
فالعمارة علمتني ما لم يكن ممكنًا أن أتعلمه ولو قرأتُ أضعافَ ما قرأتُ من كتبٍ. علمتني كيف أفكك العالم ثم أعيدُ تركيبه
على نحو مخالف. وهذا هو الجوهرُ العميق للشعر.
متى علمتِ أو شعرت أنك كاتبة أو شاعرة؟ وعلى شعر من تتلمذتي أو تعتقدين انك تأثرت به؟
أبي، رحمه الله، كان يحكي لي، وأنا ربما في الخامسة من عمري، كلَّ يوم قصّةً من قصص الأنبياء. ولما وصلنا إلى
قصةَ مريم العذراء والسيد المسيح، وكيف أنه كلّم اليهود وهو في المهد رضيعٌ، ركضتُ إلى عروستي وضغطت على زرٍّ خفي في ظهرها فتكلمت. قلتُ له بخيلاء: عروستي أيضا تتكلم وهي بعدُ صغيرة! فضحك أبي وقال إنها إنما تتكلم كلماتٍ محددةً مُبرمجة على أسطوانة داخل جسمها الصغير. بينما المسيح كان يساجل أحبار اليهود ويحاججهم في أمور معقّدة مُلغِزة تفوق حتى أعمارهم، هم الكبار، وليس وحسب عمره الصغير كطفلٍ! تلك معجزةُ الله. الكلمة. وقتها تفتّح وعيي على عالم فانتازيّ ميتافيزيقي، غير هذا الذي نراه ونلمسه. وربما من يومها بدأت رحلتي في البحث عن هذا العالم غير الأرضي، غير المحكوم بقوانين الفيزياء والمنطق. هذا العالم هو الشعر.
وربما لهذا السبب كانت دواويني الأولى تنهل بجنون من العوالم المسيحية الكنسية، ليس وحسب بسبب نشأتي في مدرسة قبطية، بل لأن عالم المسيحية ضاخٌّ بالشعر والعذوبة وإعمال الخيال المُحلِّق. ومن ثم كان طبيعيًّا جدًّا، أن أبدأ الشعرَ، قراءةً، بجبران، ومطران، وإيليا، والأخطل الصغير. ثم فتنني إبراهيم ناجي، حتى كنتُ أحاكيه تمام المحاكاة.
• في ظل وضع سياسي عالمي غير مستقر واقرب إلى التدهور، كيف يكون الموقف السياسي للشاعر؟
السياسة بمعناها الضيق، من تنظير وممارسة وكتابة قصائد تضجُّ بالتثوير والتعبئة، أم السياسة بمعناها الواقعيّ الأشمل؟ إن كان هذا ما تعنين، فكلُّ شيء في الحياة خاضعٌ للسياسة متأثرٌ بها. ومن ثم فلا تخلو قصيدةٌ في الكون من معنًى سياسيٍّ ما، مباشرٍ أو خفيّ. وإن كانت قصيدةَ غزل.
أما الشاعرُ، الشاعر الحقيقي، فلابد أن يكون سياسيًّا من طراز ممتاز. الشاعرُ مستشرفٌ دومًا، قارئٌ رفيع لواقعه، ومستقبله من ثم. قال الجميل صلاح عبد الصبور مرّةً: "الفئرانُ والشعراءُ أولُ من يشعرُ بالخطر." فمثلما يعرفُ القبطان أن سفينته على وشك الغرق حينما تبدأ الفئران بالهروب من جحورها، يستشرفُ الشاعرُ أن خطرًا ما يحيق بأمّته. يحذِّرُ الساسةَ، لكن الساسةَ كعادتهم أصمّاء متكبرون تأخذهم العزّةُ بالنفسِ ولا يسمعون سوى أصواتهم. وهذا ما كان، حينما صرخ أمل دنقل: لا تُصالح. وكأنه يقرأُ كل سطر في مدونة الراهن.

• من خلال متابعة كثير مما تكتبين وخاصة الشعر يمكن ملاحظة ابتعادك عن السياسة فهل باعتبارك امرأة هل تبتعدين
عن السياسة، أم هو موقف ما تتخذينه حيالها؟ فكتاباتك أكثرها تعبر عن الوضع الثقافي وأحيانا الاجتماعي.
إجابتي سؤالكِ السابق طرحت فكرةَ أن السياسة تدخل في أدق تفاصيل يومنا. وأن كل قصيدة مستحيلٌ أن تخلو من رؤية سياسية ما. فمثلا: إن قال شاعرٌ في قصيدة: وددتُ أن أشتري لحبيبتي وردةً، لكن دكان الورد كان مغلقًا." هنا رؤية سياسية؛ لأن القارئ لابد يسأل: لماذا محلُّ الورد مغلق؟ هل لأن هذا البلد مُحتَّلٌ مثلا، فهو فلسطين أو العراق؟ أم لأن البلدَ حزينٌ؟ وربما الوردُ حزينٌ، فكفَّ فلاحو الورد عن زراعته... كل ما سبق هي معانٍ سياسيةٌ بامتياز.
وإن خلتِ القصيدةُ من كلمة واحدة مباشرة تدلّ على إعمال البُعد السياسيّ. أما عن كون المرأة بعيدة عن السياسة، فدعيني أقول لك إن للمرأة مراكزَ استشرافٍ أكثر دقّةً وحدسًا من أعتى السياسيين. المرأةُ كائنٌ سياسيٌّ بامتياز. ولو حكمتِ العالمَ لانصلحَ حاله. فأنا من الذاهبين إلى فكرة تأنيث العالم. وأحيلكِ إلى التاريخ لنقرأ كيف نجحت المجتمعاتُ الأمومية، في حين لم تورث البطريركيةُ العالمَ سوى الدمار.

• كيف ترين الوضع العام للشعر والمثقفين في مصر والعالم؟

في مصر والعالم العربيّ الشعرُ بخير، والثقافة في أحطّ عصورها. في العالم الأول كلاهما بخير.
• وماذا ينقصنا في مصر ثقافيا وأدبيا باعتبارك سافرت كثيرًا وتعاملت مع شعراء من مختلف أنحاء العالم؟
ينقصنا أن نحبَّ أنفسنا قليلا. نحن نكيد للآخر بأكثر مما نحبُّ أنفسَنا. نحاربُ الناجحين، عِوضَ أن نفكّر كيف ننجح نحن. ينسحبُ هذا داخليًّا وخارجيًّا. فمثلما نكيد للغرب وأمريكا بوصفها سبب دمارنا، وننسى كيف نفكر أن ننجح نحن مثلما نجحوا، نفعلُ الشيءَ ذاتَه داخليًّا فنحاول هدم جارنا الناجح بدلَ أن نحاول أن ننجح مثله. هذا منهجٌ في التفكير وليس مجرد سلوكٍ عابر. هو داءٌ عربيٌّ راهن أنتجه الانفتاحُ وحكم العسكر والمدُّ السلفيّ والانتشار الوهابيّ وعُلوّ قيمة النموذج البترو-دولاري الخاوي من كل شيء عدا المال. الفردُ الغربي مشغول طوال الوقت ببناء دماغه وروحه وحياته، بينما العربيُّ مهمومٌ بمراقبة الآخر، سلبًا، من أجل النَّيل منه لكي يتساوي بنا ونتساوى به. ينقصنا شيء من
"البرجماتية"، وأنا أعني الكلمة حَرفيًّا.
• بعد مرور كل سنوات من الإبداع ومن مخالطة الوسط الثقافي .. كيف تقيمين تجربتك الشخصية؟

تجربتي، مثل معظم تجربة جيلي، لم تُقرأ بعد. وربما لن تُقرأ إلا بعد موتي. مثلما حدث مع الكثير من المبدعين.
• وماذا في خطتك وأحلامك للغد؟
لا أتمنى إلا أن أرى مصرَ جميلةً مثلما كانت حتى الخمسينيات الماضية. أتمنى أن أتركها بهيّةً فاتنةً، لكي أطمئن على
أولادي بحبِّها لهم وحبهم لها. لا شيء أكثر.

3 comments:

أحمد صـلاح said...

شكرا لهذا الحوار

طاب يومك

الدرعمي said...

الحوار جميييييل

الأسئلة مش مكررة والإجابات مش تقليدية

تحياتي لجهدك و لأدائك الحواري

و لفاطمة ناعوت المبدعة

راندا رأفت said...

شكرا لك Wōden
شكرا درعمي

تحياتي لكما